الــجـــــزء الـــثـــانــي
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خطورة كيده، وصعوبة مكره، وتفرغه للإضلال بكل حيله في قوله: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك، ودين آبائك وآباء أبيك، فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال، فعصاه فجاهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة.
ويذكر يومَ النحر يومَ الحج الأكبر تضحيته بابنه إسماعيل التي أثنى الله عليه بها، ونوه به بسببها، وجعلها شعيرة يذكر برمزها، قال تعالى: “فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تومر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين” الصافات 102 ـ 110
ويعبر عن التأسي به في هذه المواقف الجامعة للمقاصد الحنيفية السمحة، بالتلبية التي يعج بها عند بلوغ ميقاته، ويقرن بها نيته بحجه أو بعمرته أو بعمرته وحجته، مُشهدا على ذلك البلاد والعباد، والشجر والدواب قائلا:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. لأن هذه التلبية تتضمن معانيها: محبة الله، وإيثار طاعته، واسترخاص كل غال في سبيل مرضاته، وإقامة كل فروضه وواجباته بشروطه وكيفياته، التي أوكل بيانها إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ومجددا للعهد الذي قطعه على نفسه قبل وجوده، لما خاطبه الله تعالى به وهو في صلب أبيه آدم بإثباته، وتوحيده، والقبول عنه في قوله:
“وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون” الأعراف: 172 – 173.
وبهذا العهد المضمن في التلبية، يبكت الله الفاجر يوم القيامة، حتى يشهد على نفسه بنقض هذا الميثاق. وأنه لا يستحق من الله الخلاق. فعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابا: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتديا بها؟ فيقول نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم ألا تشرك ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك.
ومتحققا بحسن الخلق عنوان الصدق في التنسك وبرهان الإخلاص في الانتساب إلى هذه الشريعة الرحيمة والاقتداء بهذا النبي الكريم الداعي إلى الإنصاف في التواصل مع الناس، والحاث على تحقيق الانسجام المطلوب في أنواع المعاشرات ليرتفع عن حياة الناس خصوصا في ذلك المقام المقدس.
وحسب المومن من شواهد عظم قدر الخلق أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله غاية بعثته، ورأس مهمامه في البلاغ عن الله تعالى عندما قال: إنما بعثت لأتمم حُسْنَ الأخلاق. أو صالح الأخلاق، أو مكارم الأخلاق، أو محاسن الأخلاق. وقوله شرفه الله وعظم في حق المتحقق به قولا وعملا وسلوكا: أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طُعمة ـ أي في وجه المكسب ـ.
ويكفيه منها تبصر قول الله تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون”. النحل 91 التي نقل ابن عبد البر عمن يعلم من أهل العلم أنها أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق. وأن من أصولها في فقه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: صدق الحديث، وصدق الناس، وإعطاء السائل، والمكافأة، وحفظ الأمانة، وصلة الرحم، والتدمم للصاحب، وقرى الضيف؛ والحياء رأسها. ووسيلتها لبلوغ الكمال البشري في باب الخلق الذي يقضي بالتميز الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخيركم خيركم لنسائهم، وألطفهم بأهله.
ولذلك كان الخلق الحسن أفضل أرزاق الله تعالى على الإطلاق، لأنه ذهب بخير الدنيا والآخرة، وهو أفضل الإيمان، وأثقل شيء في الميزان، وأيسر طريق يوصل إلى الجنان، وأشرف ما تزين به الإنسان. به يسع الخطيب جميع الناس، ويثبت به خيريته بينهم، ويعظم شرفه عندهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق. ولذلك ينبغي للخطيب أن يكون صادقا، صابرا، رحيما، متواضعا، باذلا للمعروف، كافا لأذاه عن الناس. وينبغي له أن يكون ذا سيرة سديدة، وطريقة حميدة، غير متهافت على الدنيا ومراتبها، صابرا على آفاتها ونوائبها، مراقبا لله سبحانه في سره وجهره، راضيا عنه في عسره ويسره، محافظا على العلم بما أُمِرَ به في نفسه وخاصته ..قائما بفرائض الله وحدوده ، قاعدا عن محاذره ومحدوده، مقبلا على الله، معرضا عما سواه.. . عاملا بقوله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن؛ ليستحق من الله تعالى الإكرام بود الخلق الذي ضمنه لمن استقام في قوله: “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا”. مريم 96. وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا أحب عبدا، دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء، إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض. ويكون من أحسن ثمار ذلك في القيامة، أن يعطيه الله تعالى في الدرجات العلى مرتبة الساهر بالليل، الظامئ بالهواجر، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وأن يكون مؤهلا لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وضمان القرب منه الموجب للجنة الذي جعل أحاسن الأخلاق شرطه في قوله: ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحاسنكم أخلاقا، الموطؤن أكنافهم، الذين يألفون ويؤلفون، ثم قال: ألا أخبركم بأبغضكم إلي وأبعدكم مني؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا الثرثارون المتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون.
ويكون مستحقا لثناء الناس الذي يجعله الله تعالى شفاعة له، يمحو بها ما بينه وبينه لقيامه بما يجمل الإسلام ويزين صورته في الناس. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت. ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهل الجنة من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيرا وهو يسمع، وأهل النار من ملأ أذنيه من ثناء الناس شرا وهو يسمع.
ومن مقتضيات التخلق المطلوب الشكر والإحسان، وإحسان الظن بالناس، ومراعاة الأحوال، والتثبت في إصدار القرارات، والاحتياط من اتباع الإشاعات، والبراءة من اتهام الأنفس البريئات.
والحمد الله رب العالمين
وكتب الفقير إلى الله تعالى
إدريـس ابـن الضــاويـة