[et_pb_section fb_built=”1″ _builder_version=”4.4.8″ custom_padding=”14px|||||”][et_pb_row _builder_version=”4.4.8″ custom_padding=”13px|||||”][et_pb_column type=”4_4″ _builder_version=”4.4.8″][et_pb_text _builder_version=”4.6.1″]

من المعلوم أن للقرآن الكريم فيما يتصل بالإنسان الذي هو موضوعه الأساس مقاصدَ كثيرةً تحدث عنها العلماء، وأفاضوا في بيانها بكامل الاستيعاب والإيفاء.

وهي معان ودرجات شتى متنوعة، لكن يمكن القول بأنها تنتهي إلى مقصد نهائي، هو أعلى المقاصد وغايتها الكبرى، وهو تركيز عبودية الإنسان لربه، وانتشاله من حضيض داعية الهوى وأي نوع من التحكم والخضوع إلى علياء الخضوع لله الواحد الأحد، الفرد الصمد.

والربانية بما هي كذلك هي منهج عملي متكامل في منطلقاته وبرامجه ووسائله وأهدافه..

[/et_pb_text][/et_pb_column][/et_pb_row][et_pb_row column_structure=”2_3,1_3″ _builder_version=”4.4.8″ custom_padding=”||0px|||”][et_pb_column type=”2_3″ _builder_version=”4.4.8″][et_pb_text _builder_version=”4.6.1″ hover_enabled=”0″ sticky_enabled=”0″]

وفي القرآن الكريم بيان لكل ذلك بتفصيل، كما أن فيه بيانا لرموزها وأعلامها، وتحديدا لمصادر استمدادها واستنادها، لأن الرباني محتاج إلى ذلك للتحقق بالاهتداء الصحيح، والأمن من الانحراف عن مقومات التصديق، والاستقواء على وحشة الطريق.

وإذا كانت الأهداف عند الرباني تتركز في شيء واحد هو الوصول إلى حضرة الله تعالى على الصفاء والنقاء، ونيل رضوانه بتجاوزه عن موجبات الإبعاد والإقصاء، طبقا لقوله عز من قائل عن فئة من الربانيين الكبار ممن حازوا الرضا والثناء: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[1]، فإن هذا الوصول لا سبيل إليه إلا من باب الرسول صلى الله عليه وسلم.

فالقرآن الكريم يبين في سياق الحديث عن تحقيق هذه النسبة الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم مَعْلَم كبير ومنار عظيم هو أعظم المنارات والصُّوى على طريق السائرين إلى الله، الراغبين في الانتساب لحضرته، ومن تنكبه خطئ حتما طريق الهداية والوصول.

كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: « إنك إن تتبع خير من أن تبتدع، ولن تخطئ الطريق ما اتبعت الأثر»[2].

وأثر عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه كان يقول: “سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله عز وجل، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى”[3].

وذلك لأن سنته الشريفة صلى الله عليه وسلم هي معبر الوحي الواصل لأهل الأرض بالسماء، ومفتاح الاطلاع على مكنوناته وأسراره الغراء، قال حسان بن عطية: “كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن”.

وهي مصدر المعرفة الحقيقية والشاملة، بما تكشف عنه من الغيوب والحقائق والعلوم، وبما تفتح من الآفاق الواسعة للمعارف والفهوم.

[/et_pb_text][/et_pb_column][et_pb_column type=”1_3″ _builder_version=”4.4.8″][et_pb_testimonial author=”الدكتور محمد بنكيران” job_title=”عضو المجلس العلمي المحلي للعرائش” portrait_url=”https://siraj.ma/wp-content/uploads/2020/05/Fen2.jpg” _builder_version=”4.6.1″ body_text_color=”#ffffff” body_font_size=”26px” body_line_height=”1.8em” author_text_color=”#000000″ author_font_size=”15px” position_text_color=”#000000″ position_font_size=”11px” background_color=”#0da0c5″ border_width_all_portrait=”3px” border_color_all_portrait=”#ffffff” box_shadow_style_image=”preset1″]

الأهداف عند الرباني تتركز في شيء واحد هو الوصول إلى حضرة الله تعالى على الصفاء والنقاء، ونيل رضوانه بتجاوزه عن موجبات الإبعاد والإقصاء

[/et_pb_testimonial][/et_pb_column][/et_pb_row][et_pb_row _builder_version=”4.4.8″ custom_padding=”10px|||||”][et_pb_column type=”4_4″ _builder_version=”4.4.8″][et_pb_text _builder_version=”4.6.1″ hover_enabled=”0″ sticky_enabled=”0″]

وهي الطريق الدالة على الله، والموصلة إليه، والهادية إلى ما أراده ودعا إليه، من المقاصد المستقيمة الكريمة، والمعاني السوية الحكيمة، “وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله”.

وهي المبينة والمفسرة للقرآن الكريم، على نحو أحال آياته ومجموع بصائره واقعا حيا يراه الناس ويعيشونه، من خلال الأقوال والأفعال والأحوال النبوية، حتى كان القرآن بذلك أحوج إليها منه إليه.

وهي مصدر الأحكام والتشريعات المطابقة لمراد الله، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[4]، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.

وهي مجمع الفضائل المزكية للنفوس، والمرقية للأرواح، في معارج الطهر والصفاء، بما هي مجلى الصفات الإلهية والأسماء.

وهي المعيار والمرجع للأخلاق السوية، والآداب المرضية، وإنك لعلى خلق عظيم.

فكانت بذلك باب الدخول إلى الحضرة الربانية بحيث لا يصح بل لا يقع دخول إلا منها.

وأنت باب الله، أي امرئ      وافاه من غيرك لا يدخلُ

وباتباعها يتحقق القرب والحظوة من رب العالمين، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما يُدخِل إلى ربه من حيث أدخله الله إليه، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[5].

قال الإمام الجنيد رحمه الله: “الطرق كلها مسدودة إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتبعين سنته وطريقته، فإن طرق الخير كلَّها مفتوحة عليه، كما قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة”.

ولذلك كان في القرآن الكريم حديث مستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كاشف لأحواله المنيفة، وحقيقته الشريفة، وعلِيِّ مقامه في العالمين، وسمو درجته في المرسلين، وكذا مختلف مناصبه، وجميل نعوته وأوصافه، وكريم سجاياه وأخلاقه..

حديث يتناول كل متعلقاته وقضاياه، وينوه بكل منتسب له وعائد إليه، ويستوعب جميع ما صدر عنه من الأقوال والأفعال والحركات والتصرفات، بملحظ ثابت هو ملحظ التعظيم والكمال.

نجد ذلك في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[6].

قال العلامة الألوسي في تفسيره: “قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب قتادة، واختاره الزجاج”.

وقال عقب ذلك: “ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي صلى الله عليه وسلم .. ولا شك في صحة إطلاق كلٍّ عليه عليه الصلاة والسلام”[7].

وفي نفس السياق نجد أيضا قوله عز من قائل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيء الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْانْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمُ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[8].

وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيء اِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[9].

ومثل ذلك أيضا قوله سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[10].

ثم قوله الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[11].

ولهذه الآيات مقاصد كثيرة هي من قبيل المقتضى لما تقدم، وأهمها وأعظمها الإشعار بضرورة الاقتداء وشدة الحاجة إليه، وإقراره قانونا لازما وشموليا في العلاقة بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

ولذلك اقترن في القرآن الأمران معا، الوصف ومقتضاه، فكان فيه من ذلك مثلا قوله سبحانه عقب الآيات السابقة من سورة الأعراف: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[12].

ومثل ذلك قوله سبحانه الصريح والصارم المفيد لوجوب الاقتداء، والمحدد لحقيقته ومداه، إذ يقول: {وَمَا كَانَ لِمومِنٍ وَلَا مُومِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ تكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}[13].

وقوله كذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[14].

وقوله أيضا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }[15].

والذي يفهم من كل ما جاء في القرآن في هذا الباب هو أن الله أراد أن يسعد الناس باتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في نظامه في الحياتين الدنيوية والأخروية، بعد أن جعل سيرته ونظامه فيهما أكمل السير والأنظمة، كما يؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في مفتتح جل خطبه: «إن أصدق القول قول الله عز وجل، وإن أحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم» [16].

فصار لا سبيل لسعادة الإنسانية إلا بتحري التزامهما واتباعهما باستيعاب وشمول، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

إن السير على هذا المنهاج بما هو تسنن بهدي النبوة وسعي نحو الكمال يعني التزام الطريق والمنهج على قدر المستطاع، وعدم الانتقال إلى غيره مهما بلغ في إغرائه ومظهره، وهو ما نبه عليه كثير من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم ابن مسعود وأبو الدرداء بقولهم: “الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة”.

وروت عائشة رضي الله عنها فقالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخطب فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية» [17].

ويدخل في التسنن كل شيء: المفاهيم والاعتقاد والتصورات، والسلوك والأخلاق والمعاملات، والأحوال والمشاعر والهيئات.

لأن الحاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ذلك كبيرة وملحة، ولا غنى عنه في الصغير من الأشياء كما لا غنى عنه في كبيرها، سواء بسواء.

وهذا هو نهج عامة علماء وأعلام الأمة الذين ما منهم أحد إلا وهو آخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، متبع هديه وخطاه، كل في مجاله وميدانه، وقد أشار إلى هذا ابن البنا السرقسطي 6 فقال:

تبعـــــــه العـالم في الأقـــــــــــوال            والعابد الناسك في الأفعال

وفيهما الصوفي في السُّــــــــباق             لــــــــكنه قــــــد زاد بالأخـــــلاق

فما هي شروط الانتفاع بهدي رسول الله لهذا الغرض، غرض الوصول؟

وكيف يتأتى للرباني أن يصل إلى حضرة الله عن طريق تسننه برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

أول الشروط الإيمان به صلى الله عليه وسلم:

لاشك أن الشرط الأول في هذه العلاقة هو الإيمان به صلى الله عليه وسلم وبنبوته ورسالته، ومعناه عقد القلب على التصديق بأنه صلى الله عليه وسلم رسول من الله تعالى وأنه صادق فيما أخبر به عنه.

لكن بما أن هذا الأمر قلبي باطني مستتر لا يبرز إلى العيان، فإنه احتاج إلى ما يدل عليه في ساحة الابتلاء الدنيوي من الامتثال والاتباع لإظهار حقيقته ودرجته.

ثم احتاج الامتثال نفسه الذي هو تقديم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثاره على مراد النفس وهواها إلى عاطفة فياضة بالحب والتعظيم لجنابه الكريم، ليتمكن المرء من الاستجابة الطوعية له صلى الله عليه وسلم في سائر الأوقات، فكان مما اقتضاه الإيمان به صلى الله عليه وسلم بناء على ذلك الأمور الآتية:

ثانيا: وجوب اتباعه وامتثال أمره: وقد جاء الربط بينه وبين الإيمان في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: “قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبيء الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون”[18]، وقوله تعالى عن المنافقين: “ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين، وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون، إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون”[19].

ثالثا: ضرورة التسليم القلبي في الامتثال، وعدم الشعور بأدنى حرج، قال الله عز وجل: “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما”[20]، قال ابن القيم في أعلام الموقعين: “أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه، ولم يكتف منهم أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما وينقادوا انقيادا”[21].

رابعا: لزوم محبته، ومعناها ميل القلب إليه صلى الله عليه وسلم، وتعلقه التام به، وإيثاره على كل محبوب سواه، وهي عنصر أساسي في الإيمان بحيث لا يكمل إلا بها، قال عز من قائل: “قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين”[22]، وقال سبحانه: “النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم”[23]، قال العلامة ابن تيمية في شرحه: “فمن حقه أنه يجب أن يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام وأنه يجب أن يوقى بالأنفس والأموال”[24].

وقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في صحيحه: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”[25].

وقد نبه القرطبي هنا على أن المحبة في الحديث لا تعني مجرد الأعظمية لأن اعتقادها لوحدها لا يستلزم المحبة فقال: “قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته ..فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه”[26].

وأخرج البخاري أيضا عن عبد الله بن هشام قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر”.

وروى الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي”.

وقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم في هذا المضمار أروع الأمثلة كما هو معروف، وهو ما عبر عنه أبو سفيان قبل أن يسلم بقوله: “والله ما رأيت من قوم قط أشد حبا لصاحبهم من أصحاب محمد له”[27].

خامسا: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه، قال تعالى: “إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا”[28]، وقال أيضا: “فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون”[29].

والتعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه.

والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم و التعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار”[30].

ولتحقيق ذلك أوجب الله في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أمورا، منها:

– أنه نهى عن ندائه بمثل نداء سائر الناس أي باسمه المجرد مثل: يا محمد، أو يا أحمد، وجعل من الواجب تخصيصه في المخاطبة بما يليق به صلى الله عليه وسلم تأسيا بما في القرآن من مخاطبته بـ “يا أيها الرسول” و “يا أيها النبيء”، قال تعالى: “لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا”[31]، على أن الآية تحتمل معنى آخر هو النهي عن استقبال دعوة النبي   صلى الله عليه وسلم بمثل استقبال دعوة عموم الناس.

– وحرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن فقال: “يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم”[32].

– ومنع رفع الصوت فوق صوته، والجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وجعل ذلك مؤديا إلى حبوط الأعمال فقال: “يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيء ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون”[33].

– وحظر على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح بينهم، كنكاح أزواجه من بعده، تمييزا له وتوقيرا لجنابه العظيم فقال تعالى: “وما كان لكم أن توذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما”[34].

ثم أحاط الله عز وجل هذا التعظيم بسياج منيع يحول دون خرقه أو خدشه بأدنى شيء، وذلك بفرض أمور وشروط، ومنع أخرى، ومن ذلك:

– أنه أوجب الصلاة والسلام عليه بعد أن أخبر أنه هو وملائكته يصلون عليه فقال: “إن الله وملائكته يصلون على النبيء يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما”[35]، والصلاة ثناء من الله عليه، ودعاء بالخير له، وقربه منه، ورحمته له، والسلام يعني سلامته من جميع الآفات.

– حرم إذايته وتنقصه بأدنى شيء فقال تعالى: “إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا”[36]، وقال أيضا : “والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم”[37].

وقد أجمعت الأمة بمقتضى ذلك وغيره على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم أو متنقصه يقتل كما نص ابن المنذر[38]، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مؤذيه، وليس يعارض هذا ما ثبت عنه أنه لم يكن ينتقم لنفسه أبدا، فذلك فيما يتعلق بسوء أدب أو معاملة من الفعل أو القول مما لم يقصد به فاعله أذاه، وكان مما جبلت عليه الأعراب من الجفاء والجهل، وقد استنبط العلماء أن أذى النبي صلى الله عليه وسلم حرام لا يجوز بفعل مباح ولا غيره، بخلاف غيره من الناس فقد يجوز بفعل مباح[39].

هذه إذن هي أهم العناصر التي استلزمتها قضية الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم كما دلت عليها مختلف النصوص الشريفة، وواضح العلاقة بينها وبينه، إذ هي إما سبب ضروري لاستمرار هذا الإيمان أو لإيجاد ثماره الأساسية التي هي التسنن والالتزام، أو حماية وحراسة له.

وبالتأمل في هذه الأمور يتبين أنها تسهم في تحريك جميع مكونات الإنسان وأبعاده تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعقله وقلبه وعواطفه ومشاعره وجوارحه كل ذلك يتفاعل بقوة،  ويعيش حلاوة القرب ولذة الحب أثناء وقبل وبعد الالتزام بسنته صلى الله عليه وسلم وهديه.

فهل المطلوب إذن في علاقة المسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان كل هذه العناصر فيه به وانفعالها له والقرب منه إلى هذه الدرجة؟

نعم بكل تأكيد، ولعل السر في ذلك يعود إلى كون الإنسان ذا أبعاد متنوعة لا بعد واحد فلا معنى لإيمان جزء أو حتى أجزاء منه دون الباقي كما أنه لا قيمة لاقترابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوارحه دون عقله ولا بعقله دون مشاعره، فغدت هذه العلاقة في تقدير الشرع إذن تتطلب أن تستوعب كل أبعاد الإنسان بحيث لا يبقى منها شيء إلا وقد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم واتصل به بوجه من الوجوه، وهذا ما فهمه الصحابة والسلف الصالح من هذه التعاليم وغيرها فكانت لهم ثقافة واضحة المعالم استقرت في وعيهم أولا ثم ترجموها إلى سلوكات وأعمال يعتبر الكثير منها سنة نبوية لأنها حظيت بإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يتحقق فيه ذلك فإنه حظي بإقرار السلف الصالح والأمة التي لا تجتمع على ضلالة، وقد صحب هذا الإقرار سيرهم على نفس المنهج والخطى في عهود التدين المتين وعصور الازدهار والقوة في الدين، وكان بين هذا المستوى من العلاقة برسول الله صلى الله عليه وسلم وقوة التدين ارتباط واضح بحيث حينما ضعفت جذوة التدين في الأمة انحسر ذلك الخط الذي كان يمتد نحو آفاق رحبة بعيدة وبدأ التركيز  –على المستوى النظري خاصة – على قضية الالتزام بالسنة والامتثال لتعاليمها بشكل يوحي وكأن الإيمان ينبني على ذلك فقط دون غيره وهو الأمر الذي جعل العلاقة برسول الله صلى الله عليه وسلم جافة إلى حد ما وفاقدة لحيويتها وحلاوتها، وزادها ووقودها، وغدت هذه الأمور بالتالي جوانب منسية في علاقة المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم مهدت الطريق لإضعاف قضية العمل بالسنة نفسها.

إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم  كانوا سباقين فعلا إلى الالتزام بسنته كما طفحت بذلك كتب التراجم والتاريخ، ولكنهم كانوا قبل ذلك ومعه وبعده شديدي الحب له والتعلق بجنابه الشريف وكل ما يتصل به وينتمي إليه كشعره وعرقه ودمه ونخامته ووضوئه ولباسه وكل ما مسته يده الشريفة أو جسمه الطاهر وإليك الدليل على ذلك:

1 – روى البخاري عن عروة بن مسعود أنه حكى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل فقال: “والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له”.

2 – روى ابن سعد في الطبقات[40]، وابن حبان في الثقات[41] عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه نظر إلى ابن عمر وضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه.

3 – أخرج ابن أبي يعلى عن خالد بن الوليد قال: “اعتمرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة اعتمرها فحلق شعره فاستبق الناس إلى شعره، فسبقت إلى الناصية فأخذتها، فاتخذت   قلنسوة، فجعلتها في مقدمة القلنسوة فما وجهت في وجه إلا فتح لي”[42].

4 – أخرج الحاكم في المستدرك[43] والطبراني في الكبير[44] عن صفية بنت مجزأة أن أبا محذورة كانت له قصة في مقدم رأسه إذا قعد أرسلها فتبلغ الأرض فقالوا له ألا تحلقها فقال: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح عليها بيده، فلم أكن لأحلقها حتى أموت، فلم يحلقها حتى مات”.

هكذا إذن يتبين أن علاقة هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الربانيين وقدوتهم لم تقف عند حد الحرص على العمل بسنته والتمسك بأوامره وإنما تجاوزت ذلك إلى الحرص على التماس بركته وبركة آثاره والاستمداد من أنواره.

إن هذه الأشكال من السلوك والأعمال التي انطلقت من قاعدة الحب لرسول الله  صلى الله عليه وسلم والحرص على التعلق بذاته الشريفة وكل ذرة من ذرات جسده الطاهر وآثاره المباركة كانت تتيح امتدادا للعلاقة برسول الله صلى الله عليه وسلم في الاتجاه الصحيح وتعميقا لها في مشاعر الأمة ووجدانها وتحريكا لكل الأبعاد الإنسانية فيها، وقد أضحت اليوم للأسف الشديد جوانب غائبة عن ميدان علاقة كثير من المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتزامن غيابها مع غياب الحرص على اتباعه والتزام سنته، فما الذي يؤثر في الآخر منهما يا ترى ؟

[/et_pb_text][et_pb_text _builder_version=”4.6.1″ _module_preset=”default” hover_enabled=”0″ sticky_enabled=”0″]

 ————————————————–

 الهوامش:

[1] –  سورة آل عمران: الآية 147، و148

[2] – السنة للمروزي، أبي عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج (تـ 294 هـ) تحقيق: سالم أحمد السلفي، بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية – الطبعة الأولى: 1408، ص: 32.

[3] – شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي ص: 6

[4] –  سورة النساء: الآية 105

[5] – آل عمران: 31

[6] – سورة المائدة: الآية 15 و16

[7] – روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدين الألوسي محمود بن عبد الله الحسيني (تـ 1270هـ)

[8] – سورة الأعراف: الآية 157

[9] – سورة الأحزاب: الآية 45 و46

[10] –  سورة التوبة: الآية 128

[11] – سورة القلم: الآية 4

[12] – سورة الأعراف: الآية 157 و158

[13] – سورة الأحزاب: الآية 36

[14] – سورة النساء: الآية 65

[15] – سورة الحشر: الآية 7

[16] – سنن الدارمي: المقدمة، باب في كراهية أخذ الرأي.

[17] – صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب.

[18] – الأعراف 158

[19] – النور47-51

[20] – النساء 65

[21] – أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية، بيروت، دار الجيل- 1973، ج1: 51

[22] – التوبة 24

[23] – الأحزاب 6

[24] – الصارم المسلول على شاتم الرسول، بيروت، دار ابن حزم 1417- ج 3: 802

[25] – صحيح البخاري كتاب

[26] – نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري1: 59

[27] – الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 56 (بيروت ، دار صادر)

[28] – الفتح 8-9

[29] – الأعراف 157

[30] – الصارم المسلول لابن تيمية ج 3: 803

[31] – النور 63

[32] – الحجرات 1

[33] – الحجرات 2

[34] – الأحزاب 53

[35] – الأحزاب 56

[36] – الأحزاب 57

[37] – التوبة 61

[38] – انظر الشفا للقاضي عياض 2: 474 (دمشق ، مكتبة الفارابي ، مؤسسة علوم القرآن)

[39] – انظر الشفا 2: 485 فما فوق

[40] – 1: 254

[41] – ج 4: 9 (دار الفكر 1975)

[42] – مسند أبي يعلى13: 138 (دمشق ، دار المأمون للتراث 1984)- وانظر المستدرك 3: 338 (بيروت ، دار الكتب العلمية 1990)- سير أعلام النبلاء 1: 371 (بيروت ، مؤسسة الرسالة 1985)، 374 – الإصابة في تمييز الصحابة 2: 253 (بيروت ، دار الجيل 1992)

[43] – 3: 589

[44] – 7: 176 (الموصل ، مكتبة العلوم والحكم 1983)

[/et_pb_text][/et_pb_column][/et_pb_row][/et_pb_section]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *