إن معرفة المصادر ركن في صناعة الملكة، وتوجيه المواهب، وتأصيل المسائل، واستنطاق الدلائل
وقد قيل: أركان العلم :كتب صحاح وأستاذ فتاح، وعقل رجاح، وطلب وإلحاح.
فأين نجد معاني الحروف في تراثنا؟ وهل المؤلفات في معاني الحروف مؤلفات في المعاني العجمية،أم مؤلفات في المعاني الوضعية والسياقية، نقول وبالله التوفيق:
-إن النظر في معاني الحروف في كتب التراث يجدها أنواعا مختلفة، ومناهج متباينة.
- الأول: معاني الحروف الهجائية(أ…ب…ت…)وتفسيرها تفسيرا معجميا،وسنقف على مظانها، وأنماط التأليف فيها.
- الثاني: معاني الحروف الاصطلاحية أو السياقية. وقد أفردها غير واحد من علمائنا ما بين مطول ومختصر.
-ومغني اللبيب فيه غنية اللبيب ، وزاد الأديب، فهو جنة لمن رام مسائله، وتأمل دلائله، ولله در القائل:
مغني اللبيب جنــة *** أبوابه ثمــــــــانية
أما تــــــــرى وهو لا *** تسمع فيه لاغيـة
-ومارصف المباني للمالقي عنه ببعيد، فقد أصل المسائل، وعرض الخلاف، ورد ضعيف الأقوال، واستشهد للمعنى المراد.
-والجنا الداني للمرادي فيه نظم للمعاني، وضبط لمقاعد الحروف
-وجواهر الأدب للإربلي مصدر المعاني، فالزمه ولاتعاني؛إذ ثمرة العلم الصبر والتأني.
اطلب ولا تضجر من مطلب *** فآفة الطــــــــالب أن يضجرا
ألا ترى أن الحبــل في تكراره *** في الصخرة الصماء قد أثرا
ومعاني الحروف في تراثنا وكتابة علمائنا أنماط مختلفة.
- أولا: منظومات مستقلة، ومؤلفات مفردة، لعلي أن أفردها بكلمة موجزة، توضح المعالم، وتبين المناهج وتنشر المباهج.
- ثانيا: كتب النحو، وما أكثرها.
فالحرف رابطة بين أجزاء الكلم، وقد أشار ابن معطي إلى وظيفة الربط بعد التعريف، فقال:
الحرف فضلة بلفظ خال *** من علم الأسماء و الأفعال
يجيء إما رابطا أو ناقلا *** مؤكدا أو زائـــــــــدا أو عامــلا
وبالمناسبة هذا البيت لايندرج تحت التفوق الذي قاله ابن مالك في ألفيته “فائقة ألفية ابن المعطي”
فابن مالك عرف فقط، فقال:”سواهما الحرف” وابن المعطي عرّف وبين وظائف الحرف في التركيب.
وفي نظم الفرائد وحصر الشرائد للمهلبي:
تفطن فإن الحرف يأتي لستــــــــــــــــــة *** لنقل وتخصيص وربط وتعدية
وقد زيد في بعض المواضع واغتدى *** جوابا كسيت العز والأمن تزدية
- ثالثا: معاني الحروف في كتب علوم القرءان،للأنها من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر
فكيف تفسر “ما” في القرءان الكريم، وهي متعددة الوجوه، مختلفة المعاني، مترددة بين الاسمية والحرفية.
محامل “ما” عشر فإن رمت حصرهــــا *** فحافظ على بيت عتيق محــررا
ستفهم شرط الوصل فاعجب لنكرهــا *** بكف ونفي هيئ زيد ومصـدرا
فيعزى إلى الأسماء من ذاك شطرهـا *** وآخر شطريها حروف بلا مـــــرا
ومن أراد أن يقتل العلم بحثا فعليه بالكشف و البيان عن ماءات القرءان لأبي العلاء الهمذاني (ت569ه) والمؤلفات في حرف أو حرفين كثيرة نبنيها بمقال مستقل.
وكتب الوجوه والنظائر تعرضت لمعنى الحرف؛ إذ الحرف يقع على وجوه عديدة.
- رابعا: معاني الحروف في كتب أصول الفقه.
لايخفى الارتباط الوثيق بين علوم اللسان والشريعة.
-يبين لنا أبو الحسن علي بن فضال المجاشعي (ت404ه) في عيون إعرابه العلاقة بين النحو و الإستنباط، فيقول:
“فإن النحو علم يعرف به حقائق المعاني، ويوقف به على الأصول والمباني، ويحتاج إليه في معرفة الأحكام، ويستدل به على الفرق بين الحلال والحرام، ويتوصل بمعرفته إلى معاني الكتاب، ومافيه من حكمة وفصل الخطاب”
-وعندما تحدث ابن السيد البطليوسي(522ه) عن كتابه الإنصاف أو التنبيه، بين الإرتباط المتين بين اللغة العربية والشريعة، قال:
“صرفت ناظري إلى وضع كتاب في أسباب الخلاف الواقع بين الأمة… قليل النظير، نافع للجمهور، عجيب المنزع، غريب المقطع، يشبه المخترع وإن كان غير مخترع، ينتمي إلى الدين بأدنى نسب، ويتعلق باللسان العربي بأقوى سبب، ويخبر من تأمله غرضه ومقصده، بأن الطريقة الفقهية مفتقرة إلى علم الأدب مؤسسة على أصول كلام العرب”
فكتب الأصول تعالج معاني الحروف؛ لأن اللغة العربية مكون أساسي لأصول الفقه.
ومستمده من الكــــــــلام *** والنحو واللغة والأحكـــــام
قد نتساءل،ما الفرق بين البحث الأصولي والبحث النحوي، فالجواب: أن النحوي ينظر من زاوية واحدة، وهي تحرير المعنى، وله وسائل في تحرير معناه. بينما الأصولي ينظر من زاويتين:
-الأولى: تحرير المعنى كما ورد عن العرب وأملاه السياق.
-الثانية: أثر معاني الحروف في الأحكام الفقهية.
غاية الأصولي من حروف المعاني الأثر الفقهي المترتب عليها، فبحثه أعمق في الدلالة، وألطف في المعنى، والحرف مشترك في عدة معاني، والإشتراك أحد أسباب الخلاف، من رام تأصيله، تحلى بالإنصاف.
وبقي حديث عن معاني الحروف المعجمية، وأنماط التأليف فيها، وحديث عن رمزيات الحروف
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم
“من وحي التراث”
د.مصطفى البحيرة