الـجــــزء الأول
من أجل المنافع التي يعيش الحاج آثارها ويحيى بركاتها ، ويشهد أعلامها ورموزها، ويدرك أنوراها وأسرارها ونفحاتها، مواقف إبراهيم عليه السلام التي كان بها إماما للعالمين، وقدوة للصالحين، ومرجعا للمتألهين فيما خص به من العلم بالله، والفهم عنه، وابتغاء رضاه بالقيام بأمره، وتحمل المشاق الكبرى في سبيل توقيره، والعمل بمقتضى العلم الذي جلاه الله للناس في محاججتة لأبيه ومجادلته لقومه، وفي هجرته لوطنه لإقامة دينه، وتركه لأرضه ومحله، لتنشئة ذريته على وفق مراد ربه، وفي صبره على أذى قومه وكيد مشركي زمانه، وفي تضحيته بماله وجوده بكسبه، وفي توكله على خالقه، واعتماده على بارئه، وفي تضحيته بولده، وتحمل آلام قبول ذبحه له بنفسه.
وقد شكر الله له تضحيته، وأعظم صبره وتحمله، فاتخذه لنفسه خليلا، وجعله للناس إماما، وأبقى له الذكر الحسن في الآخرين، والثناء الجليل في الخالفين، وجعل النبوة في نسله إلى يوم الدين، وجعل الكعبة البيت الحرام التي رفع لها القواعد، قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد.
وكي تبقى ذكريات مواقفه في ضمائر متبعي ملته، ويستمر وعي مواقف صبره وجهاده، جعل الله تعالى أماكن ابتلاءاته، ومحال اختباراته، منسكا ينسكه صالحوا الناس، ومشعرا يعصم من مصايد الشيطان الخناس.
ومن يربط بين تصرفات إبراهيم عليه السلام في البيت الحرام توحيدا، ومحبة، وطاعة، وصبرا، وتحملا، وإخلاصا، وبناء، وتربية، وإقامة… وبين رحلة مناسك حجة النبي عليه الصلاة والسلام كما رواها جابر رضي الله عنه وساقها الإمام مسلم في صحيحه، يلحظ أن خليل الله إبراهيم عليه السلام يذكر بتصرفه وتصرف أهله هاجر تبعا له في كل أعمالها، ويستحضر مواقفه التي فضله الله بها في جميع مراحلها، ويستشعر تضحيته في كل أركانها وواجباتها.
فهو يذكر عند انطلاق رحلته إلى بيت الله الحرام عبادة هجرته إلى ربه فرارا بدينه، وتحملا لأذى قومه، متحديا كل الصعاب الحائلة دون استرخاص ما يستغليه عامة الناس في سبيل مرضاة خالقهم معلنا عزمه على جعل نفسه لله بقوله ” إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين.” الصافات: 99
ويذكر عند وصوله إلى مكة ودخوله البيت الحرام إقامة إبراهيم بقربه للقيام بواجب خدمته وتهيئته لقاصديه، ويذكر مكانته المتميزة بحدود حرمه الذي حده من كل جهاته بأمر الله وإذنه، ليكون “مثابة للناس وأمنا “ولتنشأ ذريته أمة أصيلة الآراء عزيزة النفوس ثابتة القلوب لأنه قدر أن تكون تلك الأمة هي أول من يتلقى الدين الذي أراد أن يكون أفضل الأديان وأرسخها وأن يكون منه انبثاث الإيمان الحق والأخلاق الفاضلة.
فأقام لهم بلدا بعيدا عن التعلق بزخارف الحياة؛ فنشأوا على إباء الضيم وتلقوا سيرة صالحة نشأوا بها على توحيد الله تعالى والدعوة إليه؛ وأقام لهم فيه الكعبة معلما لتوحيد الله تعالى ووضع في نفوسهم ونفوس جيرتهم تعظيمه وحرمته. ودعا مجاوريهم إلى حجه ما استطاعوا وسخر الناس لإجابة تلك الدعوة فصار وجود الكعبة عائدا على سكان بلدها بفوائد التأنس بالوافدين والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق وبما يجلب التجار في أوقات وفود الناس إليه؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوع ولا عراء. وجعل في نفوس أهله القناعة فكان رزقهم كفافا. وذلك ما دعا به إبراهيم في قوله :(ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). فكانت الكعبة قياما لهم يقوم به أود معاشهم”.
ويذكر عند بداية الطواف بالبيت العتيق الذي أذن الله له برفعه قواعده، في قوله: “وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت الثواب الرحيم”. البقرة 126 ـ 127 وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، وملة إبراهيم حنيفا مسلما، ودين محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى التوحد في التوجه عند كل صلاة إلى البقعة الطاهرة التي اصطفاها الله تعالى من مجموع أصقاع الأرض، وجعلها رمز توحيده، والإيمان له.
ويذكره عند الصلاة خلف مقامه الذي علاه عندما نادى في الناس بالحج، قول الله فيه:
“واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى” البقرة 124 مستحضرا سنة الله تعالى في تعويض من ترك شيئا له بما هو أزكى وأبرك، ومستشعرا فضل النفع المستبقي للسان الصدق في الآخرين بعد التولي عن هذه الحياة الدنيا، الذي كان مطلبا لإبراهيم عليه السلام من بين المطالب الستة التي رجاها لنفسه في حياته وآخرته في قوله:
“رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لأبي إنه كان من الضالين، ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم”.سورة الشعراء 84 ـ 89
ويذكر عند السعي بين الصفا والمروة اللذين قال الله فيهما:
“إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم” البقرة 157 ما جرى لزوجه هاجر من العناء بكثرة التردد بينهما طمعا في وجود الماء، لتسقي منه ابنها إسماعيل الذي كاد يهلك لولا أن أكرمها الله تعالى بآية نبع الماء من بين قدميه جزاء توكلها، وتوكل زوجها إبراهيم على خالقهما ووثوقهما بتمام عنايته بكل أمر يحصل اليقين في استيداعه، ليتفرغ للتبشير ويتحمل عواقب التنذير، حتى يحقق واجب البلاغ الذي أناطه الله تعالى به في ذلك المقام.
ويذكره في عرفات التي قال الله فيها: ” فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين.” البقرة 197.
وقد سميت عرفات لأن الله تعالى لما أمر إبراهيم أن يخرج إليها خرج، حتى إذا ما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا فصده فرماه وكبر فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبر فلما رأى أنه لا يطيقه ولم يدر إبراهيم أين يذهب انطلق حتى أتى ذا المجاز فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز.ثم انطلق حتى وقع بعرفات فلما نظر إليها عرف النعت قال: قد عرفت.
وقد جعلها الله تعالى زيادة على ذلك، تذكارا ليوم القيامة الذي يجمع الله تعالى فيه الناس في صعيد واحد حفاة عراة غرلا ليحاسبهم على ما قدموا في دنياهم، وعلى ما تركوا لأخراهم.
ويذكر في أيام منى تعظيمه لأمر الله تعالى وإيثاره لمحبته على كل المحاب التي يتنافس الناس في اقتنائها وامتلاكها واستبقائها، ويستحضر عداوته للشيطان الذي أتاه من كل الجهات، وذكره بكل أنواع المحبوبات، ليصرفه عن تنفيذ أمر سيده، ويصده عن ذبح ابنه، وتقريب فلذة كبده.